فصل: تفسير الآيات (23- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآيات (23- 24):

{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية إثبات لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الدليل على أنّ القرآن جاء به من عند الله، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوة، فإن قيل: كيف قال إن كنتم في ريب، ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب؟ فالجواب أنه ذكر حرف إن إشارة إلى أنّ الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان، فلذلك وضع حرف التوقع والاحتمال في الأمر الواقع، لبعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
{على عَبْدِنَا} هو النبي صلى الله عليه وسلم، والعبودية على وجهين: عامة، وهي التي بمعنى الملك، وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص، وهي من أوصاف أشراف العباد. ولله در القائل:
لا تدعني إلاّ بيا عبدها ** فإنّه أشرف أسمائي

{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} أمر يراد به التعجيز {مِّن مِّثْلِهِ} الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن، ومن لبيان الجنس، وقيل: يعد على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن على هذا: لابتداء الغاية من بشر مثله، والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود، وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة {شُهَدَآءَكُم} آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم {مِّن دُونِ الله} أي غير الله، وقيل: هو من الدين الحقير، فهو مقلوب اللفظ {وَلَن تَفْعَلُواْ} اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة، وهو إخبار ظهير مصداقة في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن، مع فصاحة العرب في زمان نزوله، وتصرفهم في الكلام، وحرصهم على التكذيب، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى، وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين: أحدهما: أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح، والثاني: أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه، والإعجاز حاصل على الوجهين، وقد بينّا سائر وجوه إعجازه في المقدمة {فاتقوا النار} أي فآمنوا لتنجوا من النار، وعبر باللازم عن ملازمه، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف {وَقُودُهَا} حطبها {الناس} قال ابن مسعود: هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدّة حرها وقبح رائحتها، وقيل: الحجارة المعبودة، وقيل: الحجارة على الإطلاق {للكافرين} دليل على أنها قد خلقت، وهو مذهب الجماعة وأهل السنة، خلافاً لمن قال: إنها تخلق يوم القيامة، وكذلك الجنة.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
{وَبَشِّرِ} يحتمل أن تكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، أو خطاباً لكل أحد، ورجّح الزمخشري هذا لأنه أفخم {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه، خلافاً لمن قال: الإيمان اعتقاد، وقول، وعمل، وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال، خلافاً للمرجئة {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي تحت أشجارها وتحت مبانيها، وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل وهكذا تفسيره وقع، وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود {هذا الذي رُزِقْنَا} منْ الأولى: للغاية أو للتبعيض أو لبيان الجنس، {مِن قَبْلُ} أي في الدنيا، بدليل قولهم: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26] في الدنيا، فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا، وإن كانت خيراً منها في المطعم والمنظر {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه، وقيل: يشبه بعضه بعضاً في المنظر ويختلف في المطعم، والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى {مُّطَهَّرَةٌ} من الحيض وسائر الأقذار، ويحتمل أن يريد طهارة الطيب وطيب الأخلاق.

.تفسير الآية رقم (26):

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
{لاَ يَسْتَحْى} تأوّل قوم: أن معناه لا يترك، لأنهم زعموا أنّ الحياء مستحيل على الله؛ لأنه عندهم انكسار يمنع من الوقوع في أمر، وليس كذلك؛ وإنما هو كرم وفضيلة تمنع من الوقوع فيما يعاب، ويردّ عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيي كريم يستحي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفراً» {أَن يَضْرِبَ} سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت، عاب الكفار على ذلك، وقيل: المثلين المتقدّمين في المنافقين تكلموا في ذلك؛ فنزلت الآية رداً عليهم {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} إعراب بعوضة مفعول بيضرب، ومثلاً حال، أو: مثلاً مفعول، وبعوضة بدل منه أو عطف بيان، أو هما مفعولان بيضرب؛ لأنها على هذا المعنى تتعدّى إلى مفعولين، وما صفة للنكرة أو زائدة {فَمَا فَوْقَهَا} في الكبر، وقيل: في الصغر، والأول أصح {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق} لأنه لا يستحيل على الله أن يذكر ما شاء، ولأن ذكر تلك الأشياء فيه حكمة، وضرب أمثال، وبيان للناس، ولأنّ الصادق جاء بها من عند الله {مَاذَآ أَرَادَ الله} لفظه الاستفهام، ومعناه الاستبعاد والاستهزاء والتكذيب، وفي إعراب ماذا وجهان؛ أن تكون ما مبتدأ، وذا خبره وهي موصولة، وأن تكون كلمة مركبة في موضع نصب على المفعول بأراد، ومثلاً منصوب على الحال أو التمييز {يُضِلُّ بِهِ} من كلام الله جواباً للذين قالوا: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}، وهو أيضاً تفسير لما أراد الله بضرب المثل من الهدى والضلال.

.تفسير الآيات (27- 28):

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
{عَهْدَ الله} مطلق في العهود وكذلك ما بعده من القطع والفساد، ويحتمل أن يشار بنقض عهد الله إلى اليهود، لأنهم نقضوا العهد الذي أخذ الله عليهم في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويشار بقطع {مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} إلى قريش؛ لأنهم قطعوا الأرحام التي بينهم وبين المؤمنين، ويشار بالفساد في الأرض إلى المنافقين؛ لأن الفساد من أفعالهم، حسبما تقدّم في وصفهم {مِيثَاقِهِ} الضمير للعهد أو لله تعالى {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} موضعها الاستفهام، ومعناها هنا: الإنكار والتوبيخ {وَكُنْتُمْ أمواتا} أي معدومين أي: في أصلاب الآباء، أو نطفاً في الأرحام {فأحياكم} أي أخرجكم إلى الدنيا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} الموت المعروف {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للجزاء، وقيل: الحياة الأولى حين أخرجهم من صلب آدم لأخذ العهد، وقيل: في الحياة الثانية إنها في القبور، والراجح القول الأول لتعينه في قوله: {وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الحج: 66].
فوائد ثلاثة:
الأولى: هذه الآية في معرض الردّ على الكفار، وإقامة البرهان على بطلان قولهم. فإن قيل: إنما يصح الاحتجاج عليهم بما يعترفون به، فكيف يحتج عليهم بالبعث وهم منكرون له؟ فالجواب: أنه ألزموا من ثبوت ما اعترفوا به من الحياة والموت ثبوت البعث، لأن القدرة صالحة لذلك كله.
الثانية: قوله: {وكنتم أمواتاً} في موضع الحال، فإن قيل: كيف جاز ترك قد وهي لازمة مع الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال فالجواب: أنه قد جاء بعد الماضي مستقبل، والمراد مجموع الكلام. كأنه يقول: وحالهم هذه. فلذلك لم تلزم قد.
الثالثة: عطف فأحياكم بالفاء؛ لأن الحياة إثر العدم ولا تراخي بينهما، وعطف ثم يميتكم وثم يحييكم بثم؛ للتراخي الذي بينهما.

.تفسير الآية رقم (29):

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
{خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض} دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض {ثُمَّ استوى} أي قصد لها والسماء هنا جنس ولأجل ذلك أعاد عليها بعد ضمير الجماعة {فَسَوَّاهُنَّ} أي أتقن خلقهن: كقوله: {فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الإنفطار: 7]، وقيل جعلهنّ سواء.
فائدة: هذه الآية تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله: {والأرض بَعْدَ ذلك دَحَاهَا} [النازعات: 30] ظاهرة خلاف ذلك، والجواب من وجهين: أحدهما: أن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر: تكون ثم لترتيب الأخبار.

.تفسير الآية رقم (30):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
{لِلْمَلاَئِكَةِ} جمع ملك واختلف في وزنه فقيل: فَعَل فالميم أصلية، ووزن ملائكة على هذا مفاعلة وقيل: هي من الألوكة وهي الرسالة، فوزنه مفعل ووزنه مألك ثم حذفت الهمزة ووزن ملائكة على هذا مفاعلة، ثم قلبت وأخرت الهمزة فصار مفاعلة وذلك بعيد {خَلِيفَةً} هو آدم عليه السلام؛ لأنّ الله استخلفه في الأرض، وقيل ذريته لأنّ بعضهم يخلف بعضاً، والأوّل أرجح، ولو أراد الثاني لقال خلفاء {أَتَجْعَلُ فِيهَا} الآية: سؤال محض لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه، وليس في اعتراض؛ لأنّ الملائكة منزهون عنه، وإنما علموا أنّ بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنّ فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم. فقاس الملائكة بني آدم عليهم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} اعتراف، والتزام للسبيح لا افتخار {بِحَمْدِكَ} أي حامدين لك والتقدير: نسبح متلبسين بحمدك، فهو في موضع الحال {وَنُقَدِّسُ لَكَ} يحتمل أن تكون الكاف مفعولاً، ودخلت عليها اللام كقولك: ضربت لزيداً، وأن يكون المفعول محذوفاً، أي نقدسك على معنى: ننزهك أو نعظمك، وتكون اللام في ذلك للتعليل أي لأجلك، أو يكون التقدير: نقدس أنفسنا أي نطهرها لك {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي ما يكون في بني آدم من الأنبياء والأولياء وغير ذلك من المصالح والحكمة.

.تفسير الآيات (31- 38):

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
{الأسمآء كُلَّهَا} أي أسماء بني آدم وأسماء أجناس الأشياء كتسمية القمر والشجر وغير ذلك {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} أي عرض المسميات، وبيّن أشخاص بني آدم وأجناس الأشياء {أَنْبِئُونِي} أمر على وجه التعجيز {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي في قولكم: إنّ الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وقيل: إن كنتم صادقين في جواب السؤال والمعرفة بالأسماء {لاَ عِلْمَ لَنَآ} اعتراف {أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} أي أنبئ الملائكة بأسماء ذريتك أو بأسماء أجناس الأشياء {اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ} السجود على وجه التحية وقيل: عبادة لله، وآدم كالقبلة {فَسَجَدُواْ} روي أنّ من أوّل من سجد إسرافيل، ولذلك جازاه الله بولاية اللوح المحفوظ {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناء متصل عند من قال: إنه كان ملكاً. ومنقطع عند من قال: كان من الجن {واستكبر} لقوله: أنا خير منه {وَكَانَ مِنَ الكافرين} قيل: كفر بإبايته من السجود لآدم، وليس كفره كفر جحود لاعترافه بالربوبية {وَزَوْجُكَ} هي حواء خلقها الله من ضلع آدم، ويقال: زوجة، وزوج هنا أفصح {الجنة} هي جنة الخلد عند الجماعة وعند أهل السنة، خلافاً لمن قال: هي غيرها {وَلاَ تَقْرَبَا} النهيُ عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى، وإنما نهى عن القرب سدّاً للذريعة، فهذا أصل في سدّ الذرائع {الشجرة} قيل هي شجرة العنب، وقيل شجرة التين، وقيل الحنطة، وذلك مفتقر إلى نقل صحيح، واللفظ مبهم {فَتَكُونَا} عطف على تقربا، أو نصب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي {فَأَزَلَّهُمَا} متعدّ من أزل القدم، وأزلهما بالألف من الزوال {عَنْهَا} الضمير عائد على الجنة، أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا.
فائدة: اختلفوا في أكل آدم الشجرة فالأظهر أنه كان على وجه النسيان، لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] وقيل سكر من خمر الجنة فحينئذٍ أكل منها، وهذا باطل؛ لأن خمر الجنة لا تسكر، وقيل: أكل عمداً وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر، وقيل: تأوّل آدم أن النهي: كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من حنسها، وقيل: لما حلف له إبليس صدقه؛ لأنه ظنّ أنه لا يحلف أحد كذباً {اهبطوا} خطاب لآدم وزوجه وإبليس بدليل: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} {مُسْتَقَرٌّ} موضع استقرار وهو في مدّة الحياة، وقيل في بطن الأرض بعد الموت {وَمَتَاعٌ} ما يتمتع به {إلى حِينٍ} إلى الموت {فتلقى} أي أخذ وقيل على قراءة الجماعة، وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات، فتلقى على هذا من اللقاء {كلمات} هي قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} بدليل ورودها في [الأعراف: 23] وقيل غير ذلك {اهبطوا} كرر ليناط به ما بعده، ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء، والآخر من الجنة، وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} إن شرطية وما زائدة للتأكيد، والهدى هنا: يراد به كتاب الله ورسالته {فَمَن تَبِعَ} شرط، وهو جواب الشرط الأوّل، وقيل: فلا خوف جواب الشرطين.

.تفسير الآيات (40- 48):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} لما قدم دعوة الناس عموماً وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصاً وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها.
فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: {وَإِذْ نجيناكم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50]، {بعثناكم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56]، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} [البقرة: 57]، {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} [البقرة: 57]، {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} [البقرة: 52]، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54]، {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم} [البقرة: 58]، {آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53]، {فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60].
وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قوله سمعنا وعصينا، واتخذتم العجل، وقالوا أرنا الله جهرة، وبدل الذين ظلموا ولن نصبر على طعام واحد، ويحرفونه، وتوليتم من بعد ذلك، وقست قلوبكم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق.
وذكر من عقوباتهم عشرة أشياء: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ويعطوا الجزية، واقتلوا أنفسكم، وكونوا قردة، وأنزلنا عليهم رجزاً من السماء، وأخذكم الصاعقة، وجعلنا قلوبهم قاسية، وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين، وخوطب المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم، وقد وبخ المعاندين لمحمد صلى الله عليه وسلم بتوبيخات أخر، وهي: كتمانهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم به، ويحرّفون الكلم ويقولون هذا من عند الله، وتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، وحرصهم على الحياة وعداوتهم لجبريل واتباعهم للسحر، وقولهم نحن أبناء الله، وقولهم يد الله مغلولة.
{نِعْمَتِي} اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع، ومعناه: عام في جميع النعم التي على بني إسرائيل مما اشترك فيه معهم غيرهم أو اختصهم به كالمن والسلوى، وللمفسرين فيه أقوال تحمل على أنها أمثلة، واللفظ يعم النعم جميعاً {بعهدي} مطلق في كل ما أخذ عليهم من العهود وقيل: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك قويّ لأنه مقصود الكلام {بِعَهْدِكُمْ} دخول الجنة {وإياى} مفعول بفعل مضمر مؤخر لانفصال الضمير، وليفيد الحصر يفسره فارهبون؛ لأنه قد أخذ معموله، وكذلك إياي فاتقون {بِمَآ أَنزَلْتُ} يعني القرآن {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} أي مصدقاً للتوراة، وتصديق القرآن للتوراة وغيره، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم للأنبياء والمتقدمين له ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به، والآخر: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم، والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة وغير ذلك من عقائد الشرائع فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} الضمير عائد على القرآن، وهذا نهيٌ عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر في ثاني حال؛ لأن هذا مفهوم معطل؛ بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره، ولما يعرفون من علامته، {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً}: الاشتراء هنا استعارة في استبدال: كقوله: اشتروا الضلالة بالهدى، والآيات هنا هي الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رياستهم، وأخذ الرشا على تغيير أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، وقيل: كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن {الحق بالباطل} الحق هنا يراد به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والباطل الكفر به، وقيل: الحق التوراة، والباطل ما زادوا فيها.
{وَتَكْتُمُواْ} معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار أن في جواب النهي، والواو بمعنى الجمع، والأوّل أرجح، لأنّ العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين، بخلاف النصب بالواو، فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين، لا النهي عن كل واحد على انفراده {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون أنه حق {الصلاوة وَآتُواْ الزكاوة} يراد بها صلاة المسلمين وزكاتهم، فهو يقتضي الأمر الدخول في الإسلام {واركعوا} خصص الركوع بعد ذكر الصلاة لأنّ صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد {مَعَ الراكعين} مع المسلمين؛ فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة.
{أَتَأْمُرُونَ} تقريع وتوبيخ لليهود {بالبر} عام في أنواعه؛ فوبخهم على أمر الناس وتركهم له، وقيل: كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتبعونه، وقال ابن عباس: بل كانوا يأمرون باتباع التوراة، ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم {وَتَنْسَوْنَ} أي تتركون، وهذا تقريع {تَتْلُونَ الكتاب} حجة عليهم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} توبيخ {واستعينوا بالصبر والصلاوة} قيل: معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا، وقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» ونُعي إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلّى ركعتين وقرأ الآية، وقيل: استعينوا بهما على طلب الآخرة، وقيل: الصبر هنا الصوم، وقيل: الصلاة هنا الدعاء {وَإِنَّهَا} الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر والصلاة، أو على الاستعانة أو على الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} أي شاقة صعبة {يَظُنُّونَ} هنا: يتيقنون {العالمين} أي أهل زمانهم، وقيل تفضيل من وجه مّا هو كثرة الأنبياء وغير ذلك {لاَّ تَجْزِي} لا تغني. وشيئاً مفعول به أو صفة لمصدر محذوف، والجملة في موضع الصفة، وحذف الضمير أي فيه {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة} ليس نفي الشفاعة مطلقاً، فإنّ مذهب أهل الحق ثبوت الشفاع لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:
{مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ولقوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] ولقوله: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] وانظر ما ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن في الشفاعة فيقال له: «اشفع تشفع» فكل ما ورد في القرآن من نفي الشفاعة مطلقاً يحمل على هذا؛ لأنّ المطلق يحمل على المقيد، فليس في هذه الآيات المطلقة دليل للمعتزلة على نفي الشفاعة {عَدْلٌ} هنا فدية {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} جمع لأنّ النفس المذكورة يراد بها نفوس.